خطاب حسن الذوادي في الأمم المتحدة

اللجنة العليا للمشاريع والارث
السيد الأمين العام، السيد القائم بأعمال رئيس الجمعية العامة، حضرات الممثلين الدائمين الكرام، السيدات والسادة:
تُعتبر الرياضة نشاطاً فريداً من نوعه بالنظر إلى قدرتها على كسر الحواجز وخلق علاقات الصداقة وتعزيز التفاهم بين الثقافات. فمهما اختلفت عقائدنا ومعتقداتنا وجنسياتنا، فإن الرياضة قادرة على ملامسة شغفنا وإخراج أفضل ما في جعبتنا كأفراد وكبشر. بيد أنه لا توجد أي رياضة أخرى تحظى بالشعبية العالمية التي تزخر بها كرة القدم. ففي الآونة الأخيرة، انتشرت على وسائل الإعلام الاجتماعية صورة لطفل أفغاني في مقتبل العمر، حيث كان شقيق ذلك الفتى قد صنع حقيبة تسوُّق ذات خطوط زرقاء وبيضاء، على غرار القميص الوطني الأرجنتيني، تحمل في جزئها الخلفي اسم "ميسي" ومعها الرقم 10. إن تلك الصورة القوية، وما جلبته كرة القدم من فرح لذلك الطفل، ترمز إلى مدى القدرة المؤثرة الهائلة التي تتميز بها اللعبة الأكثر شعبية في العالم.
كما لا يوجد هناك أي حدث باستطاعته التأثير بهذا الشكل المذهل على نطاق عالمي واسع يضاهي تأثير بطولة كأس العالم لكرة القدم، إذ لا يوجد هناك أي حدث قادر على جلب جمهور أكبر. ففي عالم يزداد عولمة بشكل تدريجي، تُعتبر هذه البطولة بمثابة الحدث الذي ينطوي على أكبر بُعد كوني في العالم بأسره.
ولعلّ عالِم الاجتماع البريطاني ومؤلف كتاب "الكرة مستديرة"، ديفيد غولدبلات، يصف بعمق حجم هذا الحدث قائلاً:
"إذا كانت هناك ثقافة عالمية وقيم إنسانية عالمية، فإن كأس العالم، أكثر من أي ظاهرة أخرى، هو الإطار الذي تُروى فيه تلك الحكايات. إننا محظوظون إذن لأن اللعبة التي اخترناها لتكون رمزنا الجماعي تنطوي على حس إبداعي وخيالي لدرجة أن مباراة واحدة - نهائي كأس العالم لكرة القدم - قادرة، خلال 90 دقيقة، على ربط الكثير من خيوط هذا الكوكب المضطرب ونسجها معاً".
إن تاريخ كأس العالم لكرة القدم يعكس في كثير من الأحيان المراحل الجيوسياسية الهامة – وهي مراحل تظل حية في أذهاننا بفضل ذكرياتنا العاطفية عن تاريخ البطولة.
في عام 1954 رفعت ألمانيا الغربية الكأس للمرة الأولى. بعد تسع سنوات على انتهاء الحرب التي مزقت أوروبا والعالم قاطبة – أدهش منتخب ألمانيا الغربية العالم بأسره من خلال هزمه المنتخب المجري الشهير. فبينما كانت ألمانيا الغربية غارقة في شكوكها الذاتية واضطراباتها الاقتصادية وعلاقتها المعقدة مع مسألة القومية، وجدت البلاد نفسها فجأة قادرة على الاحتفال بحرية، حيث اعتبرت صحيفة دير شبيغل في عددها الصادر غداة المباراة النهائية أن الفوز بكأس العالم كان بمثابة "اللحظة الثقافية التي قام عليها أساس" الجمهورية الاتحادية.
دعونا نُحوِّل التركيز إلى ما حدث بعد اثنتين وخمسين سنة، حيث تُعتبر بطولة كأس العالم التي استضافتها ألمانيا عام 2006 من الأحداث الرياضية الأكثر تميُّزاً في التاريخ المعاصر. فبعد ستة عشر عاماً من عمر مرحلة ما بعد التوحيد، فتحت الأمة الألمانية ذراعيها لاحتضان العالم ودعوة الأمم لاختبار تجربة قوة اقتصادية متمثلة في مجتمع ينبض بالحياة ويزخر بتعدد مشاربه الثقافية، وهو ما انعكس بجلاء من خلال الأسلوب الهجومي السلس لفريقه الشاب الذي حلّ ثالثاً في نهاية المطاف. فقد تبددت تلك الصور النمطية التي كانت منتشرة عن ألمانيا في السابق. لقد تحدثتُ إلى العديد من الأصدقاء الألمان الذين قالوا لي إن البلاد شهدت تعزيز هوية وطنية جديدة من خلال استضافة كأس العالم لكرة القدم عام 2006. فغداة المباراة النهائية، نشرت صحيفة التايمز اللندنية عنواناً تقول فيه: "لا أهمية للنهائيات، ألمانيا هي الفائز الحقيقي". كما اتخذت بطولة ألمانيا 2006 شعارها من عبارة "لقد حان الوقت لكسب الأصدقاء" - وكذلك سارت الأمور بالفعل. فبالإضافة إلى ما تشتهر به ألمانيا من فعالية وكفاءة، أضحت هذه الدولة تعشق المتعة وتتميز بالحداثة والحس الإبداعي، لتصبح في غضون عامين البلد الأكثر إثارة للإعجاب في العالم.
ومن جهتها، رغم ما واجهته جنوب أفريقيا من انتقادات لاذعة وحملات دعائية سلبية في وسائل الإعلام الدولية، إلا أنها تمكنت من تنظيم بطولة ناجحة على نحو رائع جعل الأفارقة يشعرون بالفخر والاعتزاز في جميع أنحاء القارة. فبدلاً من مشاهدة بقية العالم - القوى التقليدية التي تستضيف الحدث وتستعرض قدرات دولها – كان الدور قد جاء حينها لكي تثبت أفريقيا حسن ضيافتها وشغفها بكرة القدم على طريقتها الخاصة والفريدة من نوعها، وإظهار قدرتها على تنظيم الحدث بنفس القدر من الجودة التي شهدتها أي من النهائيات التي أقيمت على مرّ تاريخ كأس العالم لكرة القدم. فقد أكد نجاح بطولة كأس العالم لكرة القدم عام 2010 ارتقاء جنوب أفريقيا إلى الساحة الدولية كما وحَّد قارة بأكملها من خلال روح الفخر الأفريقي – في إنجاز لا يمكن إلا لكرة القدم أن تحققه؛ كما وقفنا شاهدين على مشهد فريد من نوعه عندما اصطف جميع الأفارقة خلف المنتخب الغاني الذي بلغ دور الثمانية في نهاية المطاف.
إن مثل هذه التجارب هي التي جعلتنا نؤمن أشد الإيمان بأن الوقت قد حان لكي تعيش منطقة الشرق الأوسط تجربة كأس العالم على أراضيها وبطريقتها الخاصة.
ما من شكّ في أن كرة القدم هي بمثابة التسلية ذات المرتبة الأولى في الشرق الأوسط. فنحن نعيش هذه اللعبة ونتنفس روحها. وحيثما ذهب المرء في المنطقة، فإنه سيلحظ الناس وهم يلعبون كرة القدم في الملاعب والحدائق والشوارع والساحات والشواطئ. تلعب كرة القدم دوراً محورياً في نسيج مجتمعاتنا المحلية. في بلاد مختلفة وثقافات ومتنوعة وأديان متعددة، في أرجاء الشرق الأوسط، بوسعي أن أؤكد لكم أن الشغف بكرة القدم يوحّدنا بشكل مختلف عن أي شيء آخر.
من اليوم الذي تقدمنا فيه بعرض الاستضافة، حافظنا على رسالة مفادها أن كأس العالم لكرة القدم 2022 لن يكون بمثابة بطولة كأس عالم لقطر فحسب، بل للشرق الأوسط برمّته. إننا على يقين من أن هذا هو التوقيت المثالي لكي تستضيف منطقتنا حدثاً بهذا الحجم.
إن تابع المرء الأخبار، ستكشف الصورة عالماً يبدو أنه ممزق بخطاب متطرف يدعو للشقاق. تلمّح هذه الصورة إلى أننا نعيش في عالم يشهد تفاقم الاختلافات بين الشعوب واستغلالها لتوسيع الصراعات بين الشعوب، بدلاً من الاحتفاء بالاختلافات. يتم تكريس ساعات من التغطية الإعلامية وآلاف الكلمات لشرح الأسباب التي تدعونا للخوف من الناس الذين يتبنون معتقدات مختلفة. في جوّ التطرف، من المهم أن نتذكر أن هناك نهجاً معاكساً.
فلنأخذ على سبيل المثال ما قام به الشعب الدنماركي، عندما توحَّد الناس معاً بعد الهجوم الذي استهدف كنيساً يهودياً في مطلع عام 2015، حيث تجمّع الدنماركيون من جميع الأعراق والأديان في نصوب تذكارية حاملين شعلاتهم للترحم على الضحايا وهم ينشدون أغنية جون لينون "إيماجين" - في صورة تعبَّر عن التضامن بين المجتمعات.
وتفاعلاً مع تلك المبادرة، تجمّع ألف مسلم في أوسلو ليصطفوا على شكل دائرة سلام حول المعبد اليهودي الرئيسي في العاصمة النرويجية. ففي زمن الخوف وانعدام الثقة والاستقطاب، وجَّه الناس نداءً يدعون فيه إلى الالتزام بالعيش معاً في سلام واحترام متبادل، بغض النظر عن العرق والدين.
وفي الولايات الجنوبية الأمريكية، بعد هدم عدد من الكنائس، أطلق مجموعة من الشباب المسلمين مبادرة تمويل جماعي خلال شهر رمضان المبارك بهدف جمع الأموال للمساعدة في إعادة بناء الكنائس المدمرة.
إنه لمن المؤسف ألا تحظى مثل هذه الأحداث إلا بإشارات هامشية في صحفنا وعلى مواقعنا الإلكترونية وشاشات قنواتنا التلفزيونية. إنه لمن الواجب أن تحظى اختلافاتنا بالقبول والاحتفاء، إذ ينبغي التأكيد على إنسانيتنا المشتركة، حيث يجب أن نكون قادرين على الضحك على خلافاتنا والاحتفاء بما يوحدنا.
إن كأس العالم 2022 يمثل علامة فارقة هامة لكرة القدم والرياضة بوجه عام. وهو بالنسبة لدولة قطر والشرق الأوسط وما وراءه بمثابة منصة لتعزيز التفاهم الثقافي في عصر تحاول فيه جماعات خطيرة تحقيق العكس تماماً. إن كأس العالم لكرة القدم قطر 2022 هو فرصة في المقام الأول والأخير للعالم العربي والشرق الأوسط لعرض طبيعته الحقيقية السلمية أمام أنظار بقية العالم، كما أنه فرصة للمنطقة لتتصدر عناوين الصحف لأسباب لا تتعلق بالصراعات. فالبطولة ستوفر للناس فرصة القدوم والإبحار خارج القوالب النمطية التي هيمنت على عقود وقرون مضت. وفي هذا الإطار لا يمكننا أن نقلل من أهمية العلاقات بين الشعوب ولا شك أنه لا توجد وسيلة أكثر فاعلية لتعزيز هذه العلاقات من كرة القدم وكأس العالم.
إنني أدرك أن هذه الرسالة قد تبدو طموحة لكنني في الوقت ذاته أعي أن أول كأس عالم في الشرق الأوسط لن تستطيع ولن تحلّ كل المشاكل، لكنها قادرة على غرس بذور مستقبل أفضل. وفي هذا المنعطف الخطير، يتعين علينا أن تكون طموحاتنا كبيرة إزاء ما يمكن لهذا الحدث الكبير تحقيقه. إننا نتحمل مسؤولية ضمان تحقيق رؤيتنا والعمل على أن يصبح هذا الحدث خطوة هامة على خارطة طريق سيمضي عليها من يؤمن بأن المستقبل سيوحدنا ولن يفرقنا. إنني أناشد جميع الحضور هنا اليوم لفهم وإدراك القدرات الكامنة لكأس العالم 2022. حيث يجب أن يكون هذا الحدث نقطة للمّ الشمل في تاريخ المنطقة. إنني أناشدكم جميعاً بالتحلي بالشجاعة ودعم حدث سيسلط الضوء على منطقتنا وسيضطلع بدور مهم في تعزيز التفاهم بين الثقافات.
إن أعمار 30 بالمائة من سكان الشرق الأوسط الذين تتراوح أعمارهم بين 15 إلى 29 عاماً يمثلون 100 مليون شخص، وهي أعلى نسبة شباب إلى الكبار في تاريخ المنطقة. وللتوضيح، فإن 55 بالمائة من سكان العالم العربي تقل أعمارهم عن 25 عاماً، بينما تقل أعمار الثلثين عن 30 عاماً. إن الملايين من الشباب الصغير المتعلم يدخلون أسواق العمل كل يوم.
إننا ملتزمون بضمان أن يعمل هذا الحدث على إطلاق الإمكانات البشرية في منطقتنا وأن يسهم في تحقيق نمو مستدام يعود بالنفع على منطقة الشرق الأوسط ككل.
إننا منذ اليوم الذي أعلنا فيه عن نيتنا للتقدم بطلب الترشح لاستضافة البطولة ندرك مسؤولية أن تضطلع البطولة بدور عامل مساعد في تحقيق إمكانات المنطقة وبناء القدرات والإمكانات البشرية وبعد أن منحنا شرف الاستضافة، أسسنا مركزاً للتميز في مجال الرياضة هو معهد جسور الذي يوفر بالتعاون مع جامعة جورجتاون برامج أكاديمية للمهنيين الشباب في قطر والمنقطة بهدف تعزيز مهارات من يعملون بالفعل في مجال الرياضة وتسليح المبتدئين بالمهارات الأساسية.
كذلك أطلقنا مبادرة تحمل اسم "تحدي 22" والتي تسعى إلى إلهام أميز المفكرين من شباب المنطقة في التوصل إلى حلول إبداعية قد تستخدم في دعم كأس العالم لكرة القدم قطر 2022. وينطوي التحدي على قيام المبدعين ورواد الأعمال من الشباب بطرح أفكارهم، بحيث يتم ربط أصحاب أفضل الأفكار بفرق البحث والتطوير في أفضل الجامعات لكي يساعدونهم على تحويل أفكارهم إلى حقيقة على أرض الواقع. إن رؤيتنا ترمي إلى توفير منصة للإبداع وريادة الأعمال لنضمن أن تمثل أذكى العقول الشابة جزءاً من نسيج كأس العالم 2022.
وفي الفترة من الآن وحتى عام 2022 سنواصل السعي جاهدين لنضمن أن يضطلع شباب منطقتنا بدور أساسي في الاستعدادات للبطولة. ونحن نرغب في أن تأتوا جميعاً إلى قطر لتشعروا أن هذه النسخة من كأس العالم تحمل طابع الشرق الأوسط. حيث سيكون في استقبالكم شعب المنطقة على أرض قطر.
إننا ندرك أن الاهتمام الإعلامي الدولي سيركز على بلادنا وهو الأمر الذي قد يكون غير مريح في بعض الأحيان. وبرغم ذلك، نحن نمضي مستندين إلى قوة إيماننا وروح رؤيتنا التي حفزتنا منذ اليوم الذي تقدمنا فيه بطلب الاستضافة. إننا نستغل هذا الاهتمام الإعلامي في مساعدتنا على تحقيق التقدم الذي تلتزم به دولتنا التزاماً راسخاً.
أودّ أن ألفت الانتباه إلى أن ضمان صحة وسلامة وأمن وكرامة كل العمال في مشاريع بطولة كأس العالم لكرة القدم قطر 2022 يمثل أهمية قصوى بالنسبة لنا. فبعد حوالي 10 ملايين ساعة عمل، لم تحدث أي وفيات في مشروعاتنا. إن حكومة بلادنا واللجنة العليا للبطولة تلتزمان بتحقيق تغيير تدريجي طبيعي يتسم بالاستدامة. نحن لا نسعى إلى إيجاد حلول سطحية مؤقتة، بل نستهدف تغييراً مستداماً يضمن تحسّناً قصير الأمد وطويل الأمد في حياة الأفراد في قطر وخارجها. ويسعدنا حصولكم على نسخة من تقرير رعاية العمال الذي يعرض نهجنا المتبع في هذا الشأن ويوضح التزامنا بالشفافية.
السيدات والسادة، منذ 1930 نسجت أروع القصص في تاريخ كأس العالم، وبعد مرور 92 عاماً على عام 1930 ستقام النسخة 22 للبطولة وحينها ستسنح للشرق الأوسط فرصة إظهار دوره المركزي في الثقافة العالمية والإنسانية الشاملة.
إن قوى الدمار المجردة من الإنسانية حول العالم وفي منطقتنا فرضت هيمنتها على الحديث عن شعبنا والنظر إليه لفترة طويلة. ولذا من المهم لبقية العالم أن يدرك أن الشرق الأوسط ليس مجرد ما يقرؤونه في عناوين الصحف.
من المهم للمواطن العادي في الولايات المتحدة وبريطانيا وألمانيا ونيجيريا والبرازيل وأي شخص في أي مكان بالعالم أن يدرك أن شعب منطقتنا متعدد الأبعاد مثلهم تماماً ويراوده شغف كشغفهم ويعشق المتعة ويحب كرة القدم مثلهم. كذلك من المهم لشعب منطقتنا أن يدرك أن شعوب العالم تجمعهم معنا قيم مشتركة.
من المهم أيضاً أن يظهر شعب منطقتنا إبداعه وروح الدعابة لديه وشغفه والأهم من هذا كله إنسانيته بأن يحترم ويقبل، بل ويحتفي بالاختلافات. نحن نؤمن بأن القصص التي سردت وستسرد حتى كأس العالم لكرة القدم قطر 2022 قادرة على تحقيق ذلك.
إن هذا الحدث الكبير يمثل فرصة ثمينة لقطر والشرق والأوسط والمجتمع الدولي كله. إنني أحثكم جميعاً على الانضمام إلينا ودعمنا في ضمان استغلال هذه الإمكانات الخيالية للبطولة.
أشكركم جميعاً وطاب صباحكم.